وحيدون على السياج الحدودي
كريات شمونه تبدو في هذه الأيام وكأنها مدينة أشباح؛ السكان القدامى يرون أنه دون حرب مع حزب الله، الذي بقوم بتصعيد هجماته شيئا فشيئا، لن يعود أحد؛ في الوقت الحالي هم يكافحون من أجل البقاء وكسب لقمة العيش: "تماما كما كان الحال قبل عام 2006، نجد أنفسنا لوحدنا على السياج"
بعد يوم من الحرائق الكبيرة في منطقة الجليل في الأسبوع الماضي، التقيت في كريات شمونة مع قائد لواء الشمال في سلطة الإطفاء يائير إلكيام، الذي بدا عليه التعب والإرهاق. سألته إذا سمح له الوقت بالمشاركة في المراسم التذكارية السنوية في سلطة الإطفاء التي أقيمت قبل يومين من ذلك في وسط البلاد.
انتظر بضع ثوان ثم أجاب: “نعم، لكن ذلك كان منذ وقت طويل، منذ أكثر من أسبوع”. صححته وقلت له إن الحدث كان قبل يومين تماما… هذا هو بالضبط الفرق بين ما تراه في وسط البلاد – روتين – وبين ما تعيشه في الشمال – حرب.
تبدو كريات شمونة هذه الأيام وكأنها مدينة أشباح. قد يكون السبب في ذلك هو ساعات الظهيرة والشمس الحارقة والأجواء الخماسينية في يونيو 2024، وربما السبب هو الخوف من الخروج، عندما لا يكون من الواضح ما إذا كانت المسيّرة التي تحلق فؤق رأسك هي من مسيّرات إسرائيلية أو أنها تابعة لحزب الله.
إحصل على تايمز أوف إسرائيل ألنشرة أليومية على بريدك الخاص ولا تفوت المقالات الحصرية آلتسجيل مجانا!
شلومي أفريات هو صديق قديم، من أيام “الحزام الأمني” في لبنان. يعمل منذ عدة عقود مع شقيقيه – يوفال وغادي – في شركة الاتصالات الشمالية “توب لاين للاتصالات”، التي تقدم خدمات لعدد كبير من المحطات التلفزيونية في إسرائيل وحول العالم.
شلومي يعرف ويتنفس ويأكل في لبنان بصورة لا تقل عن ضباط المخابرات في الجيش الإسرائيلي، فهو يعيش هناك منذ ولادته – بينما هم يتغيرون كل بضع سنوات. في يناير 1998، أصيب بجروح خطيرة جراء انفجار قنبلة وُضعت على جانب الطريق أثناء مرافقته قافلة للجيش الإسرائيلي قرب بنت جبيل.
التقينا في استوديوهاته على تلة بنية اللون شرقي كريات شمونة، وهي تلة من البازلت بنى عليها الأخوة أفريات منطقة إعلامية مثيرة للإعجاب، بمعايير لا تقل جودة عن تلك التي في تل أبيب. شلومي من سكان المطلة، ويعيش في الأشهر الأخيرة مع شقيقه يوفال في كريات شمونة. ولم يغادر أي منهما كريات شمونة في أي حرب، خاصة منذ 7 أكتوبر.
ويقول بصوت متقطع: “لن يتعجل السكان بالعودة إلى هنا… في المطلة، تم تدمير 160 منزلا بالكامل حتى الآن. علاوة على الأضرار وفترة إعادة الإعمار الطويلة التي ستكون هناك حاجة إليها، فقد الناس الثقة. إن اتفاق مع حزب الله يبدو وكأنه شيء غير ملزم. ونحن نعرف ذلك جيدا”.
“لقد شهدنا الانسحاب من لبنان مع تهديدات إسرائيل لحزب الله، ونتذكر الوعود بعد حرب لبنان الثانية. وفي كلتا الحالتين تغير الواقع ببطء على حساب إسرائيل. يجب أن يكون الأمر مختلفا هذه المرة – حرب. وإلا فإن السكان لن يعودوا”.
يجدر بنا الإصغاء لما يقوله شلومي. بعد الانسحاب من لبنان، أعاد الجيش الإسرائيلي بناء الحدود، ولكن في مرحلة معينة، بدأت تهديدات حزب الله بسبب الانحرافات عن مواقع السياج، وبدأت القوات تبتعد شيئا فشيئا عن السياج الحدودي، تاركة المزارعين هناك لوحدهم على السياج. “صفر أهداف لحزب الله” كان القول الشائع في ذلك الوقت في المؤسسة الأمنية.
يفترض هذا الفهم الخاطئ أن حزب الله لن يجرؤ على العمل ضد المدنيين، وبالتالي فإنه في الواقع هو الذي يدافع عن الحدود. وفي يوليو 2006، كانت النتيجة اختطاف إلداد ريغيف وإيهود غولدفاسر، واندلاع حرب استمرت 33 يوما وافق حزب الله في نهايتها على الانسحاب إلى ما وراء خط الليطاني.
لمدة 13 عاما، استمرت هذه الاتفاقية مع انتهاكات طفيفة واحتكاكات حدودية بين الحين والآخر. حتى بداية عام 2023. ثم بدأ حزب الله فجأة يصبح أكثر جرأة، وظل لعدة أشهر ينخر ببطء وبذكاء بتفاهمات حرب لبنان الثانية.
وهكذا، على سبيل المثال، أسس منظمة “بيئية” وأقام أبراج مراقبة على طول السياج. حمل مفتشو المنظمة الأسلحة وقاموا بأنشطة مراقبة في الأساس باتجاه الجنوب، حيث الحدود مع إسرائيل. في الوقت نفسه، بدأ التنظيم الشيعي بنشر “قوة الرضوان”، قوة النخبة التابعة له، والتي اكتسبت خبرة قتالية كبيرة في المعارك الدائرة في سوريا، في إطار المساعدات التي قدمها حسن نصر الله للرئيس بشار الأسد.
عسكريا، في 7 أكتوبر، كان حزب الله مستعدا لمهاجمة إسرائيل، لكنه فوجئ بالتوقيت الذي اختارته حماس. لم يبلغ أحد في حماس إيران، التي كان من المفترض أن تقوم بتنسيق الغزو، بتوقيت الهجوم، ومن حسن حظ إسرائيل أن حزب الله بقي على الحدود.
ولكن هنا يُطرح السؤال، ماذا حدث لحزب الله في العام ونصف العام الماضيين حتى استجمع شجاعته للنخر في تفاهمات 2006؟ من الصعب تحديد النقطة الزمنية المحددة التي بدأ فيها هذا الاتجاه، ولكن العلامة الأكثر إثارة للقلق فيه، والتي قد يقول البعض إنها ذروته، كانت عندما قام منفذ هجوم باجتياز الحدود من لبنان مع عبوة ناسفة انفجرت عند تقاطع مجيدو.
وبغض النظر عن نتائج الانفجار – إصابة شخص بجروح خطيرة – فإن مثل هذا العمل هو ذريعة للحرب ونصر الله كان يعلم ذلك. أي أنه بالنسبة له قام بمخاطرة محسوبة. وتنقسم الآراء هنا أيضا، فهل كان يعلم أن إسرائيل، بسبب وضعها الداخلي في ذروة الأزمة المحيطة بخطة الإصلاح القضائي، لن تبدأ حربا، أم أنه قدّر أنه سيكون قادرا على الصمود في مثل هذه الحرب إذا اندلعت.
يرى اللواء (احتياط) تمير هايمان، رئيس شعبة المخابرات العسكرية سابقا والرئيس الحالي لمعهد دراسات الأمن القومي (INSS)، أن الجواب يكمن في إيران. وفي محادثة أجريناها قبل ثلاثة أسابيع، ادعى أنهم في طهران خلصوا إلى أنه تم سد الفجوة العسكرية الاستراتيجية بين البلدين، وبالتالي يمكن للإيرانيين أن يكونوا أكثر جرأة.
الهجوم عند مفرق مجيدو هو إسقاط لهذا المفهوم على وكلاء إيران في المنطقة. ومن هنا أيضا قد تنبع الثقة الكبيرة التي أبداها حزب الله في القتال الدائر. صحيح أنه في البداية تعرض لضربات موجعة لا سيما في استنزاف القوات التي تقاتل على السياج، ولكن منذ ذلك الحين أصبح منحنى تعلمه حادا للغاية.
لقد عاد حزب الله إلى الوزراء إلى ما هو أبعد من نهر الليطاني وأدخل في الحملة وسائل متطورة يصعب على إسرائيل التعامل معها، مثل المسيّرات المفخخة والصواريخ الموجهة ذات الرؤوس الحربية الكهروضوئية. الهجوم الأخير على قوة تابعة للجيش الإسرائيلي بالقرب من حرفيش، والذي قُتل خلاله رفائيل كاودرس وجُرح عشرة جنود آخرين، ذكرنا مرة أخرى بمدى فعالية هذه الأداة بالنسبة لحزب الله.
يشعر سكان الشمال بهذا التغيير الاستراتيجي كل يوم. على الحدود، التقيت بصديقين حميمين، من أهل الأرض والنبيذ، اللذين يقاتلان حاليا بأظافرهم للحفاظ على كروم العنب ومصنع النبيذ.
افتتح عوفر غيدسي من موشاف ديشون مصنع نبيذ “هار زيمر” قبل 12 عاما – مصنع نبيذ عائلي صغير ينتج نبيذا ممتازا (تذوقته وأحببته). منذ بداية الحرب يعيش بعيدا عن عائلته، بين فرقة الطورائ ومصنع النبيذ وكروم العنب.
تعيش زوجته وأولاده في كريات بياليك، وسينتقلون هذا الأسبوع مرة أخرى إلى كيبوتس ألونيم. يبقى عوفر طوال الوقت في الموشاف بالقرب من مصنع النبيذ. يقوم بحزم الطلبيات في الليل بمفرده، لأنه عندها فقط لا يكون في خطر التعرض لنار قناصة.
ويقضي أيامه في شاحنة صغيرة، يتنقل في أنحاء البلاد من معرض مبيعات إلى آخر. هذه هي الطريقة التي يحاول بها الصمود، حرفيا. وهو يرفض الحصول على ثمن النبيذ مقدما، ويصر على استلامه فقط بعد أن يسلم النبيذ.
“نحن في حالة حرب، ولا أعرف ماذا ينتظرني في كل يوم، وإذا أخذت المال مقدما ولم أتمكن من توفير النبيذ، فماذا سأفعل بعد ذلك؟” ابنه البكر مقاتل في وحدة نخبة، وقضى معظم وقته في القتال في القطاع.
كان من المفترض أن يبدأ هذا الأسبوع دراسته الأكاديمية في إطار خدمته العسكرية، تعويضا عن خدمة طويلة وشاقة، كانت في جزء منها بعيدا عن حدود البلاد، لكن تم استدعاؤه الآن إلى الخدمة. ليس إلى قطاع غزة بل إلى موشاف ديشون.
يقول لي عوفر: “ينبغي عليّ أن أساعد في تقليم كروم العنف. لقد تأخرت كثيرا بالفعل والكرم بحاجة إلى الرعاية. أنا لا أتلقى في الوقت الحالي أي مساعدة من الدولة في الحصول على عمال، وإذا لم أقم بالتقليم الآن، ستكون السنة القادمة في خطر”.
عوفر هو رفيقي في السرية، نوفمبر 1984، كتيبة “شاكيد” في لواء “غفعاتي”. لطالما كان رجلا هادئا، آنذاك واليوم. “ليس لدي وقت للقلق، فأنا أفعل ذلك باستمرار – من فرقة الطوارئ، إلى إطفاء الحرائق، إلى مصنع النبيذ، إلى الكرم ثم تسويق النبيذ. هذا هو جدول أعمالي منذ بداية الحرب”. عوفر لا يأت على ذكر مصطلح الصمود، أنا أقول ذلك وهو يلتزم الصمت.
ومن المرجح أن هذه هي الأصوات التي أراد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تجنبها، لكن في الشمال ستطارده في كل مكان. من ظل هناك من السكان يشعر بألم شديد. لن يتمكن نتنياهو مرة أخرى من أن يقول للجمهور “أنت مملون” ، كما فعل مع أورنا بيرتس خلال زيارة إلى كريات شمونة في عام 2018، بعد أن هاجمته احتجاجا على إغلاق غرفة الطوارئ في المدينة بسبب نقص الميزانية.
الزيارة القصيرة التي قام بها في الأسبوع الماضي كانت بعيدة جدا عن مزارع كروم باراك وفاستريش وعوفر، وليس جغرافيا فقط. وحتى لو لم يقل ذلك صراحة واكتفى بالتلميح كما فعل خلال زيارته إلى كريات شمونة، فإن رئيس الوزراء يدعم المسار السياسي الذي تحاول الولايات المتحدة وفرنسا تمهيده، لطالما كان نتنياهو حذرا في استخدام القوة، لا سيما الآن بعد حروق غزة.
من الجيش الإسرائيلي يسمع أصواتا مختلفة. في كل زيارة من زياراته إلى القيادة الشمالية يتكون لديه انطباع بأن الجيش الإسرائيلي ليس مستعدا فحسب، بل يريد الدخول في صراع أيضا. قال له مسؤول كبير الأسبوع الماضي إن هذا هو الوقت المناسب، لأن حزب الله لا ينتشر بشكل دفاعي على الحدود.
“في الواقع، خسر حزب الله جميع مواقعه الأمامية في جنوب لبنان بسبب حماس، وهو الآن مكشوف للغاية، على الرغم من القتال العنيف الذي يشنه ضد إسرائيل من بعيد ومن الخلف”. لكن رئيس الوزراء يسمع هذه الرسائل وما زال يفضل عدم الدخول في حرب.
يدعم المسار السياسي أيضا وزير الدفاع يوآف غالانت وبيني غانتس. يقول منطقهما إن أي تحرك بري، مهما كان ناجحا، سوف ينتهي بالتوصل إلى اتفاق مع حزب الله ولبنان (وبهذا الترتيب للأسف بالنسبة لإسرائيل). ولذلك فإن التوصل إلى اتفاق قبل القتال أفضل من التوصل إليه بعده.
الفرضية الأساسية لهذا المفهوم هي أن القتال في جنوب لبنان في ظل الظروف الحالية، مهما كان ناجحا، لن يؤدي إلا إلى الإضرار بحزب الله ولن يبعده أو “يزيله” بشكل دائم من الساحة اللبنانية. بعد القتال، سيتعين على الجيش الإسرائيلي أن ينسحب في مرحلة ما، وإذا حدث ذلك دون اتفاق – فإن حزب الله سيعود إلى بناء نفسه من جديد في جنوب البلاد، حتى لو استغرق الأمر سنوات، كما حدث بعد حرب لبنان الثانية.
ولذلك فإن السياسة في الوقت الراهن هي احتواء القتال والحد منه قدر الإمكان، حتى لا يتدهور إلى حرب تبذل إسرائيل حاليا قصارى جهدها لتجنبها.
باراك فاستريش هو المسؤول عن كروم العنب في مصنع نبيذ “جبال الجليل” في كيبوتس يارؤون. وهو من سكان كيبوتس يفتاح خلال السنوات القليلة الماضية، على الحدود المقابلة لبلدة ميس الجبل، التي أصبحت في السنوات الأخيرة نقطة أمامية لحزب الله.
تقع مزارع الكروم الخاصة به بين كيبوتس يفتاح والمنارة، على تلة عالية في مكان مثالي للكروم الجميلة، لكنه موقع أقل مثالية اليوم لأولئك الذين من المفترض أن يعتنوا بها. باراك يعرف حزب الله كما يعرف مزارع الكروم لديه. يراهما كل يوم، أحدهما عن قرب والآخر من بعيد.
وفي هذه الأيام يخوض هو أيضا سباقا ماراثونيا لصيانة كروم العنب. مع ثلاثة عمال من تايلاند وبضعة عمال من بيت جن. “تماما كما كان الحال قبل عام 2006، نجد أنفسنا على السياج لوحدنا. ومرة أخرى، السيادة هي حيث يسير المحراث. قد يكون السياج بمثابة الحدود، ولكن في الواقع نحن من يحرسه”.