في كل من الجبهة الشمالية والجنوبية، التركيز ينتقل من الجهد العسكري إلى الاتصالات السياسية
إسرائيل تندفع نحو نقطة حسم مهمة فيما يتعلق بالحرب على الجبهتين: الاتفاق مع حماس سينهي القتال في الشمال أيضا ويسمح بتوقيع اتفاق مع لبنان بشأن الحدود؛ لكن هل سيتمكن نتنياهو من مواجهة اليمين في ائتلافه والتوقيع على اتفاق رغم الضغوط لشن حملة برية في الشمال أيضا؟
تشير زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المنطقة، من نواح عديدة إلى الضغط الذي تتعرض له الإدارة الأمريكية: ففي عام الحملة الانتخابية، لم يحقق الرئيس جو بايدن أي إنجاز حقيقي يمكنه التمسك به في الشرق الأوسط.
وتبنى بلينكن الموقف الإسرائيلي بشأن المفاوضات مع حماس لإطلاق سراح المختطفين مقابل وقف إطلاق النار. وبعد أن قدمت حماس ردها الرسمي يوم الأربعاء، والذي رفضت فيه فعليا الاقتراح الذي تقدمت به إسرائيل، صرح وزير الخارجية الأمريكي بأن “إسرائيل قبلت الاقتراح كما هو مكتوبا، لكن حماس لم تفعل ذلك”.
وما قاله لاحقا لا يقل أهمية “إذا استمرت حماس في الرفض، فسيكون من الواضح للعالم أنها قررت مواصلة الحرب التي بدأتها”.
هذا التصريح مرضي للأذن الإسرائيلية، لكنه كان موجه بالدرجة الأولى إلى قطر، التي استضافت بلينكن أمس. تحاول الإدارة الأميركية حث السلطات القطرية على زيادة الضغط على حماس وإجبارها على الموافقة على الصفقة.
لكن الضغط الأميركي على قطر قد فشل تماما حتى الآن، رغم التقارير بأن السلطات في الدوحة هددت بطرد قيادة حركة حماس التي تعيش في الإمارة. عمليا، لم تعزز الولايات المتحدة ضغوطها على قطر – وهذا ادعاء إسرائيلي يزداد قوة في ظل جمود المفاوضات وعناد يحيى السنوار.
ما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” أمس عن تفاصيل الرسائل التي نقلها السنوار إلى قيادة حماس في الخارج لم يفاجئ الجانب الإسرائيلي. السنوار، بحسب ما نشر، حلل الوضع بنظرة استراتيجية محكومة، عندما قال إن إسرائيل موجودة بالضبط بالمكان الذي تريد حماس أن تكون فيه: في معارك على عدة جبهات، مع النفاذ السريع لشرعيتها الدولية، وفي ظل ضغوط شعبية داخلية مكثفة لإطلاق سراح المختطفين. هذه وصفة مثالية للسنوار لرفع مطالب تضمن بقائه.
التعبير المباشر عن ذلك كان ما نشر بالأمس عن مطالبة حماس الولايات المتحدة بضمانات واضحة ومكتوبة لوقف القتال في القطاع. بالنسبة لحماس، معنى وقف الأعمال العدائية هو خروج الحركة من الأنفاق كمنتصرين وكمن يمكنهم قيادة الجمهور الفلسطيني في غزة حصريًا، كحركة نجت وانتصرت في حرب استقلال.
لكن هذا المطلب يشكل مشكلة بالنسبة لبايدن. فالولايات المتحدة، التي تصنف حماس كمنظمة إرهابية، ستكون الضامن لاتفاقية تمنح الحركة الحصانة وأكثر من ذلك أمام صديقتها الطيبة في الشرق الأوسط والديمقراطية التي تعرضت لهجوم همجي. من المستبعد أن يحظى مثل هذا الوعد الأميركي بدعم الكونغرس، حيث من المرجح يعارضه أيضاً أعضاء في الحزب الديمقراطي.
وفي غضون ذلك، بدأ الجانب الإسرائيلي يعتاد على واقع جديد، من دون حزب الوحدة الوطنية، ومن دون المجلس الحربي المصغر – والذي، على الرغم من التوترات، كان المنتدى السياسي الوحيد الذي شمل مهنيون معتدلون ناقشوا مسار الحرب من الجانب العسكري والسياسي.
وقد ناقش المجلس العديد من المواضيع، باستثناء موضوع واحد: اليوم التالي. الآن، مع انسحاب بيني غانتس وغادي آيزنكوت، من المستبعد أن يقوم أي شخص غير وزير الدفاع يوآف غالانت بتذكير رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأهمية هذه القضية.
ويبدو أنه لم يتبقى لنتنياهو الكثير من الوقت فيما يتعلق بالقرار بشأن اليوم التالي للحرب، فالعملية في رفح تتقدم ومن المتوقع أن تنتهي في غضون أسابيع قليلة. وبعد ذلك سيكون من الممكن القول أن الجيش الإسرائيلي قام بتفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس، وهو ما يعني انتقال القرارات إلى المستوى السياسي، الذي سيتعين عليه أن يقرر الخطوات التالية.
اليوم، يبقى في القطاع فقط أقل من فرقتين للجيش. معنى إخلاء القوات من قطاع غزة هو تعزيز محتمل للجبهة اللبنانية. وقد وعد رئيس الوزراء، الذي زار كريات شمونة للمرة الأولى في الأسبوع الماضي، بإعادة الأمن إلى الشمال، لكنه لم يتظرق أبدا إلى عملية برية، ولا حتى تلميحا. وهذا على الرغم من أنه سمع تصريحاً واضحاً من مسؤولين أمنيين بأن الوقت مناسب الآن للدخول في عملية برية في لبنان.
ويعتقد الكثيرون في المؤسسة الأمنية أن حزب الله يمر بواحدة من أصعب أوضاعه الدفاعية في جنوب البلاد. لقد دمر الجيش الإسرائيلي أجزاء كبيرة من البنية التحتية الدفاعية التي أنشأها حزب الله، مما أسفر عن مقتل واصابة المئات من عناصره، ودفع قوة النخبة التابعة للحزب إلى الانسحاب شمال نهر الليطاني.
ويمثل هذا الوضع، حيث قوات المنظمة متناثرة ومنهكة وقليلة على طول الحدود، فرصة عملياتية يدركها الجيش الإسرائيلي بوضوح. ولكن على الرغم من ذلك، الانطباع الذي تركه نتنياهو في الشمال هو أنه يفضل الانتظار قبل إطلاق عملية برية هناك.
يمكن بالتأكيد تفهم التردد في هذه المسألة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا بعد؟ ماذا سيحدث عندما تستقر القوات عند نهر الليطاني؟ وما هي آلية انهاء القتال والانسحاب؟ وهل ستكون هناك ترتيبات تضمن أمن سكان الشمال؟ حزب الله يستطيع أن يرفض أي عرض دولي من أجل ابقاء إسرائيل تنزف في لبنان، أو إجبارها على الانسحاب من دون اتفاق ـ وهما خياران أسوأ من الوضع الحالي.
إن شئنا أم أبينا، دولة إسرائيل تندفع نحو نقطة قرار حاسمة فيما يتعلق بالحرب على الجبهتين. الخط الواضح الذي يربط لبنان بغزة يبدأ في القطاع. الاتفاق مع حماس سينهي القتال في الشمال ويمكّن التوقيع على اتفاق (بحسب ما تزعم مصادر مطلعة على الأمر، وقد قال آيزنكوت أشياء على هذا المنوال قبل حوالي عشرة أيام).
ولذلك، انتقل التركيز إلى المفاوضات للتوصل إلى اتفاق، وأصبح الجهد العسكري ثانويا. ففي حين يتراجع التركيز العسكري في القطاع، فإنه يتصاعد في لبنان، خلافا لمصلحة الطرفين. وهكذا تعود الكرة إلى نتنياهو.
ضيق نطاق عمل رئيس الوزراء لا يتعلق بمسألة المختطفين، حيث استمع بالفعل إلى جميع الخبراء، وجميعهم قالوا له بشكل أو بآخر نفس الشيء: وقع على صفقة، وأعد المختطفين وبعد ذلك سنتعامل مع حماس بلا قيود. ضيق نطاتق مناورته تعود إلى بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
وحتى إن نفترض أنه سينجح في تجاوز العوائق اليمينية في الحكومة، فإنه لا يستطيع أن يضمن استمرار حكم حماس. وحماس تفهم ذلك أيضاً، ولهذا تطالب بالضمانات الأميركية. وإذا لم تحصل عليها (وهو ما سيحدث على الأرجح)، فسوف يكون لدى حماس من تلوم، وبالتالي ما يبرر استمرار الحرب، التي لا تزال تمنحها انتصارات فكرية مهمة في الصراع الفلسطيني الداخلي.