عودة الاندفاع نحو شراء الذهب: أقدم الأصول المالية في العالم تتجاوز مؤشر S&P
بعد حوالي عقد من التأرجح، أصبح الذهب في حوالي عامين أحد أكثر السلع المطلوبة في الأسواق المالية؛ تم ذكر إسرائيل بين العوامل التي أدت إلى ذلك، ولكن ليس وحدها؛ يتوقع المحللون أن ارتفاع سعر المعدن الثمين لم ينتهي بعد
لأول مرة في التاريخ، تجاوز سعر سبيكة ذهب قياسية تزن 400 جرام عتبة المليون دولار هذا الشهر. بعد ما يقارب عقد من التأرجح، قفز سعر الذهب بشكل حاد في عام 2024 إلى ما يزيد عن 2500 دولار للأونصة.
يعزو الخبراء جزءا كبيرا من الزيادة المذكورة إلى إمكانية خفض أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية – وخاصة بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية.
عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة، فإن العائدات من الاستثمارات في السندات والودائع المصرفية – التي تعتمد عائداتها على مستوى الفائدة – تصبح أقل جاذبية، ويبحث المستثمرون عن بدائل يمكنها الحفاظ على قيمة أموالهم – ويعتبر الذهب أحد هذه البدائل.
كما يُنظر إلى الذهب على أنه أصل آمن في فترات عدم الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي. ويضاف إلى التوقعات بانخفاض أسعار الفائدة الحرب في غزة والشمال، التي تهز الشرق الأوسط، والحرب في أوكرانيا المستمرة منذ أكثر من عامين. كل هذا سيرفع سعر الذهب الذي استمر بالارتفاع حتى وصول ذروته هذا العام.
هناك عامل مفاجئ آخر يغذي سعر الذهب منذ عام 2022 – ويرتبط أيضا بالصراعات الجيوسياسية – وهو البنوك المركزية في العالم. في عام 2024 وحده، زادت البنوك المركزية احتياطياتها من الذهب بنحو 290 طنا، أي ما يزيد بنسبة 69% عن المتوسط الربع سنوي للسنوات الخمس الماضية. وكان هذا أعلى مبلغ للمشتريات في بداية عام منذ عام 2000.
وتتنوع أسباب اندفاع البنوك المركزية على الذهب. فتريد بعض البنوك التحوط ضد الانخفاض المحتمل في قيمة الدولار والاضطرابات الجيوسياسية التي تجتاح العالم. وفي المقابل، أدى استخدام الأميركيين للدولار لفرض العقوبات وتجميد أصول البنك المركزي الروسي إلى قيام البنوك المركزية في الكتلة المناهضة لأمريكا بشراء الكثير من الذهب لتقليل الاعتماد على الدولار.
وووفقا لمجلس الذهب العالمي، اشترت البنوك المركزية 1037 طنا من الذهب العام الماضي، مع شراء البنك المركزي الصيني كمية أكبر من جميع البنوك المركزية الأخرى مجتمعة. ولم تتوقف وتيرة مشتريات الصينيين حتى في بداية عام 2024.
وفي الوقت نفسه، باعت الصين جزءا كبيرا من ممتلكاتها في الأوراق المالية التابعة لوزارة الخزانة الأمريكية. وبينما كانت تمتلك في بداية عام 2022 أكثر من تريليون دولار من الأصول المالية القادمة من الحكومة الأمريكية، فقد تم تخفيض هذه الممتلكات إلى 768.30 مليار دولار بحلول مايو 2024 وتم استبدالها بالذهب وأصول أخرى.
وعلى خلفية العلاقات الجيوسياسية غير المستقرة بين القوتين العظميين، تحاول الصين تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي والاستعداد لاحتمال فرض عقوبات أمريكية عليها أو على حلفائها.
لا شك بين محللي السوق أن البنوك المركزية بشكل عام – والصين بشكل خاص – رفعت أسعار الذهب إلى مستويات غير مسبوقة. ولكن بنك إسرائيل ينتمي في الواقع إلى مجموعة البنوك التي لا تؤمن بالذهب، وهو يفضل الاحتفاظ بمعظم احتياطياته بالعملات الأجنبية والسندات الحكومية والأسهم، كجزء من إدارته للأصول الاحتياطية.
لقد حافظ الذهب على مكانته كعملة قابلة للتداول وكوسيلة للحفاظ على الثروة لآلاف السنين. فكان الذهب رمزًا للثروة والقوة في مصر القديمة والإمبراطورية الرومانية. وفي العقود الأخيرة، لم يحافظ الذهب على مكانته باعتباره “ملاذا آمنا” فحسب، بل سجل أيضًا عوائد تنافس المؤشرات والأسهم المركزية والشعبية.
وبمقارنة عوائد الذهب مع عوائد مؤشر ستاندرد آند بورز (S&P) على مدار العشرين عاما الماضية، فقد حقق الذهب عائدا أعلى لمستثمريه بنحو 117% أكثر من مؤشر S&P. وسجل من راهن على مؤشر S&P قبل خمس سنوات في الواقع عائدًا أعلى من الذهب بنحو 10٪. ولكن كل هذا تغير مرة أخرى في السنوات الأخيرة لصالح الذهب.
في عام 2024 وحده، أظهر الذهب زيادة بنحو 23% منذ بداية العام. بالإضافة إلى ذلك، تفوق الذهب على مؤشر S&P بنسبة 6% وتفوق على سندات وأسهم عمالقة البرمجيات مثل أبل وجوجل في العائد.
وماذا عن المستقبل؟
انخفضت رغبة شراء الذهب في الصين خلال شهر يونيو. وذكرت الصين في ذلك الشهر أن احتياطياتها من الذهب لم تتغير منذ حوالي شهرين. وهذا على النقيض من عمليات الشراء الضخمة التي استمرت لمدة 18 شهرًا متتاليًا من قبل.
ويقدر بنك “جي بي مورجان” أنه مع ارتفاع سعر الذهب، ستكون البنوك المركزية أكثر تكتيكية في عمليات شراء الذهب، مما قد يقلل من معدل مشترياتهم. ولكن على الرغم من ذلك، توقع البنك أن يبقى بعض بنوك المركزية ومستهلكون آخرون مشترين أقوياء في السوق وسيدعمون ارتفاع سعر الذهب. وتشير تحليلات البنك إلى أن سعر الذهب سيصل إلى 2600 دولار للأونصة خلال عام 2025.
ويتوقع جيوفاني ستونوفو، كبير محللي السلع في بنك UBS، أن يصل سعر الذهب إلى 2600 دولار بحلول نهاية العام و2700 دولار بحلول منتصف عام 2025. ويتوقع البنك انخفاض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، والتي ستدعم مع ضعف الدولار تدفق الاستثمارات إلى صناديق الاستثمار المتداولة للذهب.
وعلى الرغم من التفاؤل في السوق ورغم توقع خفض أسعار الفائدة، فمن المهم أن نتذكر أن الاستثمار في الذهب له أيضًا مخاطر. على سبيل المثال، بين عام 2009 ونهاية عام 2011، تضاعف سعر الذهب ووصل إلى 1900 دولار. لكن في الفترة من أكتوبر 2012 إلى يوليو 2013، فقد المعدن أكثر من ربع قيمته.
استمر سعر الذهب في الانخفاض إلى مستوى منخفض بلغ 1054 دولارًا للأونصة في ديسمبر 2015. أي أن الشخص الذي وضع أمواله في الذروة خسر ما يقرب من نصف قيمتها واضطر إلى الانتظار بصبر لمدة خمس سنوات أخرى حتى يتعافى من هذه الخسائر.
وحدث هذا الانخفاض على الرغم من أن أسعار الفائدة في ذلك الوقت كانت منخفضة بشكل غير عادي. وأظهر عام 2012 أن عوامل أخرى ــ إلى جانب أسعار الفائدة المنخفضة ــ من الممكن أن تخلف تأثيراً. فعلى سبيل المثال، قد تؤثر التغيرات في الطلب العالمي أو التقلبات في أسعار العملات أو حتى شائعات السوق على سعر الذهب.
وكما ذكرنا سابقًا، يسلط هذا الحدث الضوء على أحد المخاطر الرئيسية في الاستثمار في الذهب – وهو التقلب. ويكمن خطر آخر في حقيقة أن الذهب لا يدر دخلا جاريا، على عكس الأسهم التي تدفع أرباحا أو السندات التي تدفع فائدة. الربح من الذهب يعتمد فقط على زيادة قيمته. وهذا يجعل الاستثمار في الذهب أكثر خطورة بالنسبة للمستثمرين الذين يحتاجون إلى تدفق نقدي ثابت.
ويجب أن نتذكر في النهاية أن سعر الذهب يتأثر أيضًا بالعوامل النفسية والعاطفية. فبينما من الممكن أن يؤدي الذعر في الأسواق إلى زيادات حادة في قيمته في الأسعار، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى انخفاضات حادة عندما يمر الذعر.
وفي حين أن الذهب يمكن أن يكون له مكان في محفظة استثمارية متنوعة، فمن المهم فهم المخاطر التي تنطوي عليها. عام 2012 يذكرنا بأنه حتى عند الاستثمار في “ملاذ آمن”، فإن الحذر والتقييم الحكيم للمخاطر هما المفتاحان لاستثمار ناجح.