شمال إسرائيل يحترق لكن اجتياح لبنان لن يحل شيئا
تحتاج إسرائيل إلى الوقت لبناء جيشها لحملة حاسمة ضد حزب الله، ولكن مع عدم احتمال التوصل إلى اتفاق بشأن رهائن غزة، فليس لديها طريقة سهلة لإنهاء القتال في الشمال وإعادة الإسرائيليين إلى بيوتهم
في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، بينما كان اليهود يعودون من بابل إلى صهيون ويعيدون بناء الهيكل الثاني، جلس الاستراتيجي الصيني سون تزو بالقرب من مصب نهر اليانغتسي وكتب أحد مقولاته الشهيرة: “سينتصر من يعلم متى يقاتل ومتى لا يقاتل”.
على مدى ثمانية أشهر، قرر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن الوقت غير مناسب للقتال في الشمال، على الأقل ليس حربا كاملة.
للتعامل مع إطلاق حزب الله المستمر للصواريخ وهجمات المسيّرات من لبنان، قرر نتنياهو إجلاء عشرات آلاف الإسرائيليين من منازلهم في وقت مبكر من القتال، ثم الشروع في حملة متصاعدة ببطء ضد مقاتلي الحزب المدعوم من إيران وبنيته التحتية.
إحصل على تايمز أوف إسرائيل ألنشرة أليومية على بريدك الخاص ولا تفوت المقالات الحصرية آلتسجيل مجانا!
ولكن يبدو أن هذا النهج يقترب بسرعة من نهايته.
يوم الخميس، أطلق حزب الله وابلا من الصواريخ وسربا من المسيّرات المفخخة، مما أدى إلى اندلاع ما لا يقل عن 15 حريقا في الجليل والجولان المدمرين. واستمرت الهجمات يوم الجمعة.
وأطلقت الجماعة الشيعية القوية يوم الأربعاء أكبر هجوم لها منذ السابع من أكتوبر، حيث سقط 215 صاروخا على مدن في مختلف أرجاء الشمال.
“كلما مر الوقت وتصاعد الصراع، كلما زادت فرص اندلاع حرب”، هذا ما قالته أورنا مزراحي، باحثة كبيرة في معهد دراسات الأمن القومي.
نتنياهو، الذي تقلص كابينت الحرب الذي يقوده بسبب انسحاب رئيسا الأركان السابقين بيني غانتس وغادي آيزنكوت منه، يواجه الآن التحدي الذي طرحه سون تزو – هل حان الوقت للقتال؟
إياكم، رجاء
منذ بداية حرب إسرائيل على حماس، ألقى الرئيس الأمريكي جو بايدن بثقله الدبلوماسي الكبير وهدد باستخدام القوة العسكرية لمنع انتشار القتال في غزة إلى لبنان وخارجه.
وقال بايدن في 18 أكتوبر: “رسالتي إلى أي دولة أو أي جهة فاعلة معادية أخرى تفكر في مهاجمة إسرائيل تبقى كما كانت قبل أسبوع. إياكم. إياكم. إياكم”.
كما أرسل حاملتي طائرات إلى شرق البحر المتوسط.
لكن هذه التدابير لم تحقق التأثير المطلوب، إن كان لها أي تأثير على الإطلاق.
في حرصه على إظهار دعمه لحماس، وشعوره بوجود فرصة لفرض الألم على الإسرائيليين الهشين، شرع حزب الله في حرب استنزاف ضد إسرائيل.
وفي نهاية المطاف، غير بايدن مساره.
أرسل بايدن مبعوثه الخاص عاموس هوكستين إلى إسرائيل ولبنان في محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسي من القتال. ويبدو أن العديد من الرحلات إلى المنطقة، وعرض خطة هدنة، قد باءت بالفشل.
قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بوضوح أنه لن تكون هناك نهاية للقتال في الشمال دون وقف إطلاق النار في الجنوب.
وأكد أن “الرابط بين الجبهة اللبنانية الداعمة وغزة نهائي وحاسم… لا أحد يستطيع فصلهما”.
كان جهد بايدن الأخير هو بذل كل ما في وسعه لإنهاء القتال في غزة. وإذا تمكن من وضع حد للحرب هناك، فإن البيت الأبيض يرى أن حزب الله وإسرائيل سيكونان حريصين على إنهاء صراع لا يمكن لأي منهما الانتصار فيه، وأن الطريق مفتوح أمام اتفاق سلام سعودي إسرائيلي محتمل … كل هذا قبل انتخابات نوفمبر ضد دونالد ترامب، الذي لم يتمكن بايدن حتى الآن من محو التقدم الضئيل للرئيس السابق عليه.
لقد تمحورت هذه الجهود حول إيجاد طريقة لحمل كل من إسرائيل وحماس على الموافقة على صفقة إطلاق سراح رهائن مقابل وقف إطلاق نار، حتى لو كان ذلك يعني خروج حماس من الحرب على قيد الحياة.
حتى أن بايدن اتخذ خطوة دراماتيكية إلى حد ما بتقديم أحدث مقترحات إسرائيل علنا في أواخر مايو، على أمل أن يجبر نتنياهو على الالتزام ببنود الاقتراح وحث مصر وقطر على الضغط على حماس لقبوله.
إن خلاصة هذا الجهد هي قيام إسرائيل بتقديم تنازلات بعيدة المدى في كل شيء باستثناء التعهد النهائي بإنهاء الحرب، في حين لا ترى حماس أي سبب يدفعها للقيام بأي شيء آخر سوى الجلوس ومشاهدة أصدقاء إسرائيل في العالم وهم يواصلون تقويض موقفها.
ولكن لمفاجأة البيت الأبيض ولكن دون أن يفاجأ أي أحد في إسرائيل، يبدو أن التهديد بوقف الأسلحة والتكرار بأن الولايات المتحدة لن تدعم اجتياحا كاملا لمعقل حماس الأخير في غزة قد جعل الفرص الضئيلة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أكثر بعدا.
بحسب تقرير كتب زعيم حماس يحيى السنوار لمسؤولين يتفاوضون مع قطر ومصر بشأن صفقة: “الإسرائيليون موجودون حيث نريدهم تماما”.
في مرحلة ما، من المرجح أن تستنتج إدارة بايدن أن حماس – في غياب ضغط عسكري كبير – لن تطلق سراح الرهائن دون ضمان أنها انتصرت في الحرب وأن إسرائيل خسرت.
لكن الولايات المتحدة لم تصل إلى هذه النقطة بعد. قال وزير خارجيتها أنتوني بلينكن بعد أحدث تكتيكات مماطلة لحماس، حيث لم ترفض الحركة بشكل قاطع العرض الأخير ولكنها أصرت بدلا من ذلك على إنهاء الحرب: “نحن عازمون على محاولة سد الفجوات، وأعتقد أن هذه الفجوات قابلة للسد”. ومع ذلك، أقر بلينكن، “هذا لا يعني أنه سيتم سدها”.
ليسوا جاهزين للنصر
يبدو أن الأفكار نفذت من الولايات المتحدة، وفي إسرائيل يتحدثون أكثر وأكثر عن اجتياح بري للبنان.
وهناك اقرار واسع النطاق بأن مثل هذا القرار لن يتم التوصل إليه باستخفاف.
تحذر مزراحي قائلة انه “من أجل هزيمة حزب الله، نحتاج إلى حرب طويلة ومعقدة للغاية”.
ولكن ليس فقط أنها ستكون حربا طويلة ومعقدة؛ بل إنها حرب لن تكون إسرائيل مستعدة للانتصار بها.
قبل خمس سنوات، جمع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك أفيف كوخافي كبار القادة العسكريين في “ورشة عمل النصر” لوضع الأساس لخطة الجيش المتعددة السنوات القادمة. خرجت قيادة الجيش الإسرائيلي من ورشة عمل الفحص الذاتي ببعض الاستنتاجات المقلقة.
على مدار ثلاثة عقود تآكل التفوق العسكري الكامل الذي تمتع به الجيش الإسرائيلي. حماس وحزب الله، اللذان كانا يُنظر إليهما ذات يوم على أنهما جماعتين إرهابيتين ضعيفتي الموارد يمكنهما تنفيذ تفجيرات عرضية وهجمات خاطفة صغيرة، تمتلكان الآن قدرات تقترن بجيوش دول.
وقد حدد كوخافي التحدي الذي ستواجهه قوات الجيش الإسرائيلي في مواجهة جيشي هاتين المنظمتين المتطرفتين: “[إنهم] موجودون في قلب المناطق الحضرية بطريقة لامركزية، مما يجعل من الصعب للغاية تحديد موقعهم وتدميرهم، ويسمح للعدو بمهاجمة الجبهة الداخلية لإسرائيل بشكل فعال بمرور الوقت”.
لقد تمكنوا من بناء قدراتهم بشكل مطرد حيث أنشأ الجيش الإسرائيلي قوة تعتمد على الاستخبارات والقوة الجوية، وهي القوة المقصود منها ردع أعدائه في عمليات قصيرة عرضية.
إدراكا للحاجة الملحة للتغيير، دعا كوخافي إلى زيادة القوة الفتاكة للقوات البرية، وتحسين الترابط بين الطيارين والمشاة والدبابات والمسيّرات، ووضع أجهزة استشعار أفضل في ساحة المعركة لتحديد موقع العدو أولا.
لم يتم إدخال هذه القدرات إلا جزئيا إلى القوات البرية بحلول الوقت الذي اقتحم فيه المسلحون بقيادة حماس إسرائيل في السابع من أكتوبر.
ومن أجل الرد على حماس، تكيف الجيش الإسرائيلي وطور تكتيكات نجحت في اختراق دفاعات حماس المجهزة فوق الأرض في غزة.
ولكن تحت غزة، لم تتغلب إسرائيل بعد على التحديات. فوحداتها الهندسية الخاصة تعمل ببطء مع الأنفاق الفردية، ولكن الجيش الإسرائيلي لا يزال غير قادر على العثور بسهولة على الأصول الاستراتيجية الرئيسية لحماس، أو القادة الكبار والرهائن المحتجزين داخلها.
أما التحديات التي قد يواجهها الجيش الإسرائيلي في لبنان فستكون أعظم بكثير. فحزب الله يمتلك أسلحة مضادة للدبابات ومسيّرات هجومية أكثر تقدما. ومن خلال القتال في دفاعات معدة مسبقا في منطقة مفتوحة، سيكون بوسعه استهداف قوات الجيش الإسرائيلي من على بعد كيلومترات.
وعلاوة على ذلك، سيواجه جنود الاحتياط جولتيهم الثالثة والرابعة من الخدمة هذا العام. سوف يلتحق معظمهم بالخدمة العسكرية، ولكن الضغوط على الأسر والشركات ستكون حتى أكبر.
لن تكون هذه المرة الأولى التي يدخل فيها الجيش الإسرائيلي قوات برية إلى لبنان، ويكون على ثقة من أن نجاحاته الساحقة ضد المسلحين الفلسطينيين سوف تترجم إلى إنجازات ضد حزب الله.
في عام 2006، بعد هزيمة حملة هجمات الفصائل الفلسطينية في الانتفاضة الثانية عسكريا، تحرك الجيش ضد حزب الله في حرب لبنان الثانية، ووجد هناك نوعا من الحرب التي لم يكن مستعدا لها، فقاتل حزب الله حتى وصل إلى طريق مسدود مخيب للآمال.
ولكن هذا الواقع لم يمنع صناع القرار من الدعوة إلى شن هجوم على لبنان. فقد ورد أن نتنياهو، بدعم من زعيمي حزب “الوحدة الوطنية” غانتس وآيزنكوت، اللذين انسحبا من الحكومة وكابين الحرب منذ ذلك الحين، منع محاولة من جانب وزير الدفاع يوآف غالانت وكبار المسؤولين في الجيش لشن اجتياح بري استباقي ضد حزب الله بعد أيام من السابع من أكتوبر.
“إذا كنت لا تعتقد أنه من الصواب خوض حرب ضد حزب الله في الثامن من أكتوبر، فإن الأمر يصبح أقل منطقية اليوم”، كما يقول المنظر العسكري الإسرائيلي عيران أورطال، وهو جنرال سابق في الجيش الإسرائيلي.
ثمن باهظ على ماذا؟
في الوقت الذي يخوض فيه مئات الآلاف من الجنود الإسرائيليين معارك ضد حماس منذ أكثر من ثمانية أشهر في غزة، فإن الجيش يحرق مخزوناته من القذائف والقنابل الدقيقة وصواريخ “القبة الحديدية” الاعتراضية.
في غضون ذلك، يتمتع حزب الله بتدفق للمسيّرات وغيرها من الأسلحة من إيران، وهو يستخدمها لدراسة الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
وقال أورطال: “لم نملأ أنفسنا بقدرات جديدة. في حين يتم إفراغ مخزوناتنا، فإن مخزوناتهم مليئة”.
تتمركز قوات الجيش الإسرائيلي حاليا خلف الدفاعات وعلى المنحدرات الخلفية بعيدا عن صواريخ حزب الله. الاجتياح من شأنه أن يعرض هذه القوات للخطر في حين لن يحل حتى المشكلة التي من المفترض أن يعالجها – نيران حزب الله على المدنيين الإسرائيليين.
بإمكان الجيش الإسرائيلي أن يستولي على كل شبر مربع من الأراضي على بعد عشرة كيلومترات ـ بل وحتى عشرين كيلومترا ـ من الحدود، وسوف يظل حزب الله قادرا على إطلاق الصواريخ على إسرائيل.
وسوف تتحول المعركة إلى حرب مناورات مكلفة، إلى جانب قيام إسرائيل بإلحاق أضرارا جسيمة بلبنان، في حين سيفعل حزب الله الشيء نفسه بالجبهة الداخلية الإسرائيلية.
إن هذا من شأنه أن يشكل في الواقع حربا أخرى لا تهدف إلى هزيمة حزب الله بل إلى ردعه من خلال العقاب ــ وهو نفس النوع من الحملات العسكرية التي أثبتت عدم فعاليتها في السابع من أكتوبر.
وقد تنتهي هذه الحرب باتفاق لوقف إطلاق النار، وهو اتفاق من غير المرجح أن يعلق سكان الشمال عليه أي آمال كبيرة.
وكان بإمكان إسرائيل توسيع حرب الاستنزاف الحالية في الشمال، ولكنها كانت ستكون في وضع أسوأ بعد ذلك.
وحذر أورطال من أن “الثمن سيكون أعظم بكثير من الإنجاز”.
وهذا لا يترك لإسرائيل خيارات كبيرة.
ولكن ما زال يتعين على إسرائيل أن تتخذ قرارا في غزة. فبوسع إسرائيل أن تعزز حملتها العسكرية مؤقتا لتعظيم إنجازاتها قبل إعلان نهاية ما للحرب. وبوسع نتنياهو أيضاً أن يفرض نوعا جديدا من الضغوط على السنوار بالسماح أخيرا للسلطة الفلسطينية بالبدء في السيطرة على مناطق في غزة، وهو ما قد يسمح لإسرائيل بتقصير هذه المرحلة من القتال ضد حماس.
أو قد تتبنى إسرائيل وجهة النظر القائلة بأن الحرب على حماس ليست سوى معركة تمهيدية صغيرة في صراع جيلي ضد إيران ووكلائها، وأن تقبل شروط السنوار للبدء في بناء الجيش الإسرائيلي لاجتياح وشيك للبنان بعد بضع سنوات.
على أي حال، إن خوض معركة متزامنة ضد حماس وحزب الله في الوقت الحالي ليس وضعا ينبغي لإسرائيل أن تضع نفسها فيه.
تساءل أورطال: “لماذا يصبح جيش تم بناؤه على مدار ثلاثين عاما لعمليات الردع قادرا فجأة على هزيمة حماس وحزب الله عسكريا؟”.
أو كما كتب سون تزور قبل نحو 2500 عام، “كان المقاتلون الجيدون يضعون أنفسهم في الماضي بعيدا عن احتمالات الهزيمة أولا، ثم ينتظرون الفرصة لهزيمة العدو”.