لا يقتصر النقاش العالمي الدائر حول تقليص ساعات العمل على الحق في الحصول على يوم إجازة آخر في منتصف الأسبوع فحسب، بل إنه يمثل تحديا للافتراضات الأساسية المتجذرة فينا مثل كيفية عملنا، كيفية قياسنا للإنتاجية، وكيفية تحديد النجاح في عالم سريع التغير.
تقدم البيانات الواردة من بلدان مختلفة صورة مثيرة للاهتمام فيما يتعلق بإمكانية تقصير أسبوع العمل. في أيسلندا – وهي الدولة الرائدة في هذا المجال – أسفرت تجربة واسعة النطاق شملت جزءا كبيرا من قوة العمل (أكثر من 1٪ من السكان) عن نتائج مذهلة: فقد ظلت الإنتاجية مستقرة – بل وزادت – وأفاد الموظفون بتحسن كبير في الرفاهية الشخصية، بما في ذلك تقليل التوتر والإرهاق.
بعد هذه التجربة الناجحة، أصبح ما يقارب من 90٪ من العاملين في أيسلندا يتمتعون الآن بساعات عمل مخفضة أو ترتيبات مماثلة. وفي بريطانيا، أجريت تجربة واسعة النطاق بدأت في يونيو 2022 وشملت 61 شركة تضم أكثر من 3300 موظف.
ودرست التجربة، التي أجرتها جامعتا كامبريدج وأكسفورد ومجموعات بحثية أخرى، التأثيرات على الإنتاجية ورفاهية الموظفين والمساواة بين الجنسين. وكانت نتائج التجربة مشجعة للغاية – وقررت 92٪ من الشركات الاستمرار في هذا النموذج بانتظام. وأعرب 90٪ من الموظفين عن رغبتهم الواضحة في مواصلة هذا النموذج؛ وأفاد 55٪ بتحسن في قدراتهم على العمل – وذكر أكثر من 40٪ منهم أن صحتهم تحسنت.
وفي البرتغال أيضا، بدأت تجربة بتمويل حكومي في ذلك العام بمشاركة 39 شركة خاصة. النموذج الذي تم اختباره هو “100:80:100″، أي راتب 100٪ مقابل 80٪ من ساعات العمل العادية، مع الحفاظ على إنتاجية 100٪.
وفي بلجيكا، وهي دولة رائد اخرى في هذا المجال، دخل حيز التنفيذ في عام 2022 قانون هو الأول من نوعه في العالم يسمح للعاملين بضغط أسبوع العمل إلى أربعة أيام – دون تخفيض الأجر. تم تصميم هذا النموذج لتحسين المرونة في إدارة الجداول الزمنية للموظفين وللشركات، وللمساعدة في تحقيق التوازن بين الأسرة والعمل. ومع ذلك، فإن القانون لا يقلص إجمالي ساعات العمل، لذلك يجوز للموظفين العمل لأيام أطول.
إن البيانات المستمدة من هذه التجارب وغيرها التي أجريت في بلدان أخرى مثل اسكتلندا وألمانيا – وحتى من تجربة أجريت هنا في إسرائيل في السنوات الأخيرة – تتحدى المفهوم التقليدي، الذي يقضي بأن المزيد من ساعات العمل يعني المزيد من الإنتاجية.
حتى أن البعض يشير إلى استنتاجات معاكسة. لقد تبين أنه عندما يتم منح الموظفين مزيدا من التحكم في وقتهم، فإنهم يعودون إلى العمل أكثر انتعاشا وأكثر تفاعلا – وأكثر إنتاجية في نهاية المطاف.
ومع ذلك، فإن الانتقال إلى أسبوع عمل مدته أربعة أيام ليس بهذه البساطة. يتطلب نموذج “100:80:100” تخطيطا دقيقا وتغييرا في ثقافة العمل. وقد يشمل ذلك تغيير ترتيب الاجتماعات، وأساليب العمل المختلفة، وأساليب الاتصال الإضافية، وطرق تحديد الأولويات.
بالإضافة إلى ذلك، قد تواجه بعض القطاعات مثل التربية والتعليم أو الصحة أو الوظائف التي تتطلب نوبات عمل، صعوبة في تنفيذ أسبوع العمل القصير دون الإضرار بالخدمات الأساسية.
كما أن الانتقال إلى أسبوع عمل مختصر طوعا، كما اقترحت الحكومة البريطانية، لا يخلو من المشاكل. وبموجب قانون أقرته الحكومة البريطانية في أبريل 2024، يحق للموظفين طلب المرونة في ساعات العمل من اليوم الأول لعملهم دون تخفيض في إجمالي عدد الساعات الأسبوعية.
ولا يضمن الاقتراح أسبوع عمل مدته أربعة أيام، بل فقط الحق في طلب ذلك، على أن يعود القرار النهائي إلى أصحاب العمل. وتزيد هذه الخطوة من المخاوف من أنه بدلا من تعزيز توازن أفضل بين العمل والحياة، فإنها قد تؤدي في الواقع إلى تعميق الفجوات القائمة.
إن الفجوة بين العاملين وأصحاب العمل مثيرة للقلق بشكل خاص بالنسبة للعاملين في الوظائف المنخفضة الأجر، الذين لا يتمتعون بالقدرة على المساومة التي يتمتع بها زملاؤهم من ذوي الأجور الأعلى. وبالتالي، فإن أسبوع العمل القصير قد يصبح فائدة مخصصة للعاملين في وظائف مجزية، في حين أن العمال الذين يعانون من انخفاض الأمن الوظيفي والأجور المنخفضة لن يتمكنوا من تحمل تخفيض ساعات العمل.
ويتطلب النهج الفعال حقا لأسبوع عمل مكون من أربعة أيام في النظام البريطاني أيضا معالجة مسألة الأجور المنخفضة وضمان إمكانية اتاحة النموذج إلى جميع العاملين – وليس فقط لمجموعة مختارة.
وهناك مصدر قلق آخر يتمثل في أن عبء العمل قد يزيد في أيام العمل المتبقية. تثبت التجارب أن عددا كبيرا من الموظفين يزدهرون في بيئة عمل أكثر تركيزا، لكن قد يشعر آخرون بالضغط ويفشلون في الحفاظ على نفس مستوى الإنتاج دون أن يصابوا بالإرهاق.
ومن ناحية أخرى، هناك أيضا دول تعمل على وجه التحديد ضد هذا الاتجاه. ورغم أنها أقلية ضئيلة، إلا أنها موجودة. ففي اليونان، على سبيل المثال، يسمح قانون جديد بالعودة إلى أسبوع عمل مدته ستة أيام للتعامل مع نقص العمالة وتعزيز الاقتصاد. وتم تمديد ساعات العمل الأسبوعية من 40 ساعة بموجب القانون إلى 48 ساعة، باستثناء قطاع السياحة والخدمات الغذائية.
وقد قوبلت هذه الخطوة بانتقادات حادة من جانب النقابات العمالية في اليونان، وتعتبر بمثابة تراجع في حقوق العمال. مصدر القلق الأكبر هو أن القانون الجديد قد يضر بقاعدة أسبوع العمل لمدة خمسة أيام، ضف إلى ذلك أن العامل اليوناني يعمل أكبر عدد من الساعات في الاتحاد الأوروبي.
على الرغم من التحديات، فإن الزخم العالمي يتجه نحو أسبوع عمل أقصر ولا يبدو أنه سيكون بالإمكان وقف هذا الاتجاه. حتى في اليابان، المعروفة بثقافة العمل المتطلبة والنطاق الواسع لظاهرة “الكاروشي” (الموت الناجم عن العمل الزائد)، بدأوا في دراسة إمكانية أسبوع عمل مدته أربعة أيام من أجل تحسين رفاهية العاملين والاستجابة لمشاكل اجتماعية.
حتى أن الحكومة اليابانية تقدم حوافز للشركات التي تتبنى نموذج عمل مرن، ولكن دون تحقيق نجاح كبير حتى الآن. 8٪ فقط من الشركات في بلاد الشمس المشرقة تعرض حاليا أسبوع عمل قصيرا على موظفيها.
ليس هناك شك في أن مستقبل العمل قد تمت إعادة كتابته، وأن أسبوع العمل لمدة أربعة أيام هو في قلب هذا التغيير. ومع استمرار تراكم المعطيات من التجارب العالمية، ومع وجود التكنولوجيا التي تسمح بالمرونة في مكان العمل، يمكننا أن نتوقع المزيد من الأساليب المبتكرة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة والإنتاجية.
قد يبدو تقصير أسبوع العمل في إسرائيل بساعة واحدة (وساعتين في السنوات الأخيرة) لموظفي خدمات الدولة خطوة صغيرة جدا، لكنها مع ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح.
في القطاع الخاص في إسرائيل، يعمل العاملون حاليا 42 ساعة، وفي القطاع العام انخفض هذا الرقم إلى 40 ساعة – وهو أعلى من المتوسط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والذي يبلغ حوالي 37 ساعة في الأسبوع. ومع ذلك، ربما لا تزال هذه علامة على أن العمل في المستقبل سيكون أكثر مرونة وإرضاء – وأكثر إنسانية أيضا.