رام الله، الضفة الغربية – بعد جهود الوساطة في استعادة العلاقات بين الخصمين الإقليميين إيران والمملكة السعودية، يتطلع الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى تعزيز صورة بكين كلاعب قوي في الشرق الأوسط.
قدم شي، الذي استضاف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يوم الأربعاء، اقتراحا صينيا آخرا للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
تعكس الخطة إلى حد كبير المبادرات الصينية السابقة التي تم كشف النقاب عنها خلال العقد الماضي: فهي تدعو إلى عقد مؤتمر دولي لتعزيز محادثات السلام التي تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على خطوط ما قبل عام 1967 وتوجيه كميات كبيرة من المساعدات الدولية للحفاظ على الكيان الجديد.
من المؤكد أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يرأس الآن أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل، سيرفض الاقتراح، حيث أن اسرائيل تبتعد أكثر عن قبول فكرة الأرض مقابل السلام.
لكن بالنسبة لرام الله، تمثل الصين وسيطا مرغوبا فيه أكثر بكثير من أمريكا، التي لم تعد تثق بها كثيرا.
في مقابلة أجريت معه مؤخرا في مكتبه برام الله، قال وزير التنمية الاجتماعية في السلطة الفلسطينية أحمد مجدلاني إن الصين في وضع أفضل لإقناع إسرائيل بتقديم تنازلات بعد أن رفضت الولايات المتحدة لسنوات ممارسة مثل هذا الضغط.
واضاف مجدلاني، الذي يرأس حزب “جبهة النضال الشعبي الفلسطيني” الصغير، لكنه ارتقى إلى صفوف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بفضل علاقته الوثيقة مع عباس: “لا نعتقد أن مصير العالم بيد الأميركيين. هناك قوى ناشئة أخرى في العالم”.
ووصف الوزير الفلسطيني، البالغ من العمر 68 عاما، الولايات المتحدة على أنها دولة في حالة تدهور، ودولة أخفقت في تطبيق معاييرها الخاصة على القانون الدولي على إسرائيل. وتجاهل مجدلاني الانقسامات الداخلية المريرة بين الفلسطينيين وأزمة الشرعية المستمرة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية، والتي تفاقمت بفعل فشل عباس في إجراء انتخابات.
لكنه أقر بأن مهمة أي وسيط أو مجموعة من الوسطاء ستكون صعبة للغاية، مؤكدا في الوقت نفسه على أن الشعب الفلسطيني يتحلى بالصبر وسيؤَمن حريته بطريقة أو بأخرى.
وقال: “لقد قمنا [للتو] بإحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية”، مستخدما الكملة التي يصف بها الفلسطينيون قيام دولة إسرائيل.
“أكثر ما يحبطنا في الولايات المتحدة هو الازدواجية في المعايير”
وأقر وزير التنمية الاجتماعية والمقرب من عباس أن “التوقعات كانت عالية للغاية” في رام الله بعد انتخاب جو بايدن رئيسا قبل عامين ونصف.
كان ذلك بمثابة نهاية فترة ولاية دونالد ترامب، التي وصلت خلالها العلاقات الأمريكية الفلسطينية إلى مستويات منخفضة جديدة بكل المقاييس. قطعت رام الله العلاقات مع واشنطن بالكامل بعد أن اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في عام 2017، بينما واصل الرئيس الأمريكي السابق إلغاء جميع المساعدات تقريبا للفلسطينيين.
خلال حملته الانتخابية وعد بايدن بإعادة المساعدات الانسانية للفلسطينيين والعلاقات الدبلوماسية مع قيادتهم.
ولقد وفى بكلا الوعدين لكنه فشل في الوفاء بتعهده بإعادة فتح البعثة الدبلوماسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن والقنصلية الأمريكية في القدس، اللتين أغلق ترامب كلاهما. كما أعاد بايدن التزام الولايات المتحدة بدعم حل الدولتين، لكن الفلسطينيين يقولون إنه لم يتخذ أي خطوات للحفاظ عليه.
من جانبهم، يصر مسؤولون في إدارة بايدن على أنهم يؤمنون بالإطار، لكنهم يقولون بأن الظروف غير مواتية حاليا لمبادرة سلام عالية المخاطر وأنهم يفضلون بالتالي التركيز على تأمين مكاسب أصغر في غضون ذلك.
لكن مجدلاني رفض ذكر مساهمة إيجابية واحدة قدمها بايدن منذ دخوله البيت الأبيض واتهم إدارته باستخدام معايير مزدوجة مرارا وتكرارا في تعاملها مع إسرائيل.
وقال الوزير الفلسطيني إن أولويات السياسة الخارجية لواشنطن كانت في مكان آخر منذ اليوم الأول وأن القضية الفلسطينية تراجعت حتى إلى موقع أدنى على جدول الأعمال في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وبالفعل، تجنب بايدن تعيين مبعوث خاص لعملية السلام كما فعل العديد من أسلافه. وبدلا من ذلك، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأسبوع الماضي أن الإدارة ستعين قريبا ممثلا سيكون مكلفا بتوسيع “اتفاقيات إبراهيم” بين إسرائيل وجيرانها العرب، والتي تخشى رام الله أن تستخدمها القدس لتجاوز القضية الفلسطينية.
وقال مجدلاني: “لا تشعر الولايات المتحدة أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يؤثر على مصالحها، لذا فهم يتدخلون فقط للحفاظ على الهدوء لأنهم لا يريدون تصعيدا من شأنه التأثير على مساعيهم الأخرى”.
وتابع: “أكثر ما يحبطنا بشأن الولايات المتحدة هو ازدواجية المعايير التي يطبقونها على الشعب الفلسطيني”، مضيفا “لقد دفعوا المليارات لدعم أوكرانيا في مواجهة الاحتلال الروسي، وكل ذلك مع دعم الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين”.
“قادرة لكنها غير راغبة”
مسلطا الضوء على قرار الولايات المتحدة بالتدخل بشدة ضد خطة الإصلاح القضائي التي اقترحتها حكومة نتنياهو، جادل وزير السلطة الفلسطينية بأن إدارة بايدن قلقة بشأن الوضع الداخلي لإسرائيل أكثر من اهتمامها بحالة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وأشار إلى الاجتماعات الإسرائيلية الفلسطينية الأخيرة التي رعتها الولايات المتحدة ومصر والأردن في العقبة وشرم الشيخ والتي كان هدفها الأساسي منع الطرفين من اتخاذ إجراءات أحادية الجانب يعارضها الطرف الآخر.
ويتهم الفلسطينيون إسرائيل بانتهاك تلك الالتزامات، والتي تضمنت تجميدا لمدة أربعة أشهر لعقد جلسات لتعزيز بناء المستوطنات الجديدة وتجميدا لمدة ستة أشهر لشرعنة بؤر استيطانية جديدة.
تجادل إسرائيل بأنها لم تفعل ذلك من الناحية التقنية، لكنها أعطت الضوء الأخضر للبناء في القدس الشرقية، كما قامت بشكل غير قانوني بنقل معهد ديني في شمال الضفة الغربية، مما سيفسح المجال لشرعنة بؤرة حومش الاستيطانية.
ستنتهي فترة تجميد المصادقة على وحدات استيطانية جديدة، التي تستمر لمدة أربعة أشهر، في نهاية يونيو حيث من المقرر أن تجتمع الهيئة في وزارة الدفاع المسؤولة عن البناء في الضفة الغربية.
وأنتقد مجدلاني الأمريكيين قائلا: “إن الإدارة الأمريكية قادرة على الضغط على الحكومة الإسرائيلية لكنها ببساطة غير راغبة بالقيام بذلك”.
وردا على سؤال حول سبب عدم قطع سلطة رام الله بدورها العلاقات مع بايدن كما فعلت مع ترامب، قال الوزير إن هناك اعتبارات سياسية مختلفة قيد التنفيذ لكن السلطة الفلسطينية ستتخذ هذه الخطوة إذا أصبحت الإدارة الحالية “مثل ترامب”.
وقال: “عندما أنهينا العلاقة مع ترامب، عاش الشعب الفلسطيني ولم تكن القيادة الفلسطينية معزولة عن العالم”.
وأوضح مجدلاني: “ليس لدينا أوهام ولا نتوقع أن تكون هذه الإدارة الأمريكية الراعي الوحيد لعملية السلام. لقد فقدت الشرعية في قيادة مثل هذه العملية. خيارنا اليوم هو رعاية متعددة الأطراف لعملية السلام، سواء من خلال إعادة تنشيط اللجنة الرباعية أو عقد مؤتمر سلام دولي” على غرار المؤتمر الذي اقترحته الصين.
لكن الوزير الفلسطيني قال إن إدارة بايدن منعت اللجنة الرباعية – التي تضم ممثلين من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا – من الاجتماع وسط جهودها لعزل موسكو بسبب حربها في أوكرانيا.
اللجوء إلى الصين
وردا على سؤال حول كيفية تكييف رام الله لاستراتيجيتها لتحقيق حلمها بإقامة دولة في ظل العقبات المختلفة، قال مجدلاني إن السلطة الفلسطينية توجهت إلى الصين وحتى إلى روسيا لطلب المساعدة.
التقى عباس بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكتوبر، وأزعج إدارة بايدن بشدة عندما استغل الفرصة للاستهزاء بالولايات المتحدة علنا.
صوّر مجدلاني اتفاق التطبيع الإيراني السعودي الذي أبرم في مارس على أنه “نقطة البداية لتراجع الهيمنة الأمريكية في المنطقة”.
كما أشار إلى صعود تحالف “بريكس” الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والذي أقيم ليكون ندا للمنتدى الغربي المؤلف من كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
تساهم بلدان البريكس حاليا بنسبة 31.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على أساس تعادل القوة الشرائية، في حين انخفض معدل مجموعة السبع إلى 30.7٪.
وأشار مجدلاني إلى أنه بينما يُنظر إلى الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على أنها قوة عظمى، فقد أظهر التاريخ أن القوى العظمى يمكن أن تسقط. “الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة اليوم ليس أفضل بكثير مما كان عليه قبل انهيار الاتحاد السوفيتي السابق”.
وبناء على ذلك، أكد وزير السلطة الفلسطينية أن الصين في وضع أفضل للمساعدة في الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وقال مجدلاني إن “إسرائيل لديها علاقات ومصالح مهمة مع الصين، بما في ذلك مشاريع واستثمارات بمليارات الدولارات”، مشيرا إلى أن بكين قد تستفيد من هذه العلاقات والمصالح لإقناع إسرائيل بالتوصل إلى حل وسط.
لكن لطالما أعطت إسرائيل الأولوية لعلاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والتي لن ترغب في تعريضها للخطر من خلال إضفاء الشرعية على دور الصين كوسيط عالمي.
ومع ذلك، يصر مجدلاني على أن الولايات المتحدة تقدم أكثر بكثير مما تحصل عليه في علاقاتها مع إسرائيل وأنها “لن تكون مستعدة لدعم وحماية [الدولة اليهودية] إلى الأبد”.
وبعد الضغط عليه لشرح سبب احتمال نجاح اقتراح السلام الأخير للصين أكثر من اقتراحاتها السابق، قال مجدلاني إن الاقتراح الجديد يتضمن “آليات للتنفيذ” لكنه رفض الإفصاح عن ماهية هذه الآليات.
“من قال أننا يجب أن نخشى المستقبل؟”
أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية التي فقدت الكثير من الدعم في السنوات الأخيرة، فقد قلل مجدلاني، وهو أيضا أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي يسيطر عليها عباس إلى حد كبير أيضا، من أهميتها، وقال الوزير إن “السلطة الفلسطينية هي مجرد أداة يملكها الشعب الفلسطيني. ما يهم أكثر هو الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية”.
وقال عن الهيئة التي وُلدت من اتفاقية أوسلو الموقعة في عام 1994: “السلطة الفلسطينية ليست سوى أداة تم إنشاؤها لفترة انتقالية”.
ورغم التأكيد على أن “الفلسطينيين ليس لديهم أوهام بأن المستقبل القريب سيأتي بالحلول”، إلا أن مجدلاني لم يشر إلى وجود قلق بشأن ما ينتظر حركته. “من قال أننا يجب أن نخشى المستقبل؟ في رأيي ان إسرائيل هي التي يجب ان تخشى المستقبل وليس الفلسطينيين”.
وأضاف: “تواجه إسرائيل ثلاثة خيارات: حل الدولتين، أو دولة أبرتهايد، أو دولة ديمقراطية واحدة. نحن مستعدون لكل واحد من هذه الخيارات”.